قد تستغربون- إخواني وأخواتي- هذا العنوان، ولكن الحقيقة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي أوتي جوامع الكلم، والذي قال عن نفسه "ما تركت أمرًا فيه خيركم إلا وأمرتكم به".. هل يعقل ألا نجد عنده حلاًّ من كتاب الله أو سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأزمة البطالة والضنك الاقتصادي الذي يعيش فيه المسلمون الآن؟! فالقرآن يحدِّد في قصة سيدنا يوسف- عليه السلام- أن حلَّ أزمة الأمة الاقتصادية في زراعة القمح وتخزينه والاقتصاد في استهلاكه، وقد كان من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول الرسالة أنه يُكسِب المعدوم، وبعد البعثة جاء فقيرٌ يشكو من ضيق ذات اليد، فلم يعطه مالاً، ولكنه وضع له خطةً اقتصاديةً متكاملةً في جوامع الكلم:
أولاً: سأله عن ممتلكاته فلم يجد عنده إلا حصيرة، فقال له "بعها"، وهنا فرق كبير بين بيع الممتلكات وضياع أو تبديد العائد كما يحدث الآن، ولكنه أرسى قاعدة مهمة، وهي التخلص من ثقافة التملك والاقتناء والحرص على عدم بيع أي ممتلكات بينما الظروف الاقتصادية صعبة؛ فهذه بداية الخطة الاقتصادية لحل الأزمات حتى على المستوى الفردي.
وبعد البيع والحصول على حصيلةٍ ماليةٍ يجب تقسيم هذا العائد إلى ثلاثة أقسام متساوية: أولاً ثلث للإنفاق ولا يتعداه: وثلث للادخار: ولو كان الإنسان فقيرًا فلا بد أن يدخر، والثلث الأخير لشراء وسائل الإنتاج لكسب الرزق أو آلة عمل على كسب الرزق، وهو القادوم، وبهذا تمكَّن الفقير من حل مشكلة حاضرة، وأمَّن مستقبله، وسعى على رزقه، ولم يقعد ويندب حظه ويبكي على حاله أو ينتحر يأسًا من حياته كما يفعل البعض من ضعاف الإيمان الآن.
وهناك مثال آخر أجَّلت الحديث عنه لأنه موقف إيماني بحت يحتاج إلى اليقين في وعد الله أنه في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه.
وقد ذكر القرآن في قصة سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام (سورة القصص) أنه خرج من مصر خائفًا يترقب ليس معه طعام ولا شراب ولا ملابس، ولا يوجد له مأوى يبيت فيه ولا زوجة ولا ولد ولا عمل يتكسب منه، ولكن الدافع الإيماني في عون الغير لم يَضِع في خضم هذه المشاكل الشخصية العديد التي يعاني منها سيدنا موسى عليه السلام، بل عندما وجد فتاتين في حاجةٍ إلى المساعدة لم تشغله همومه عن هموم الآخرين، فساعدهما ومضى إلى الظل سائلاً ربه ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ (القصص: من الآية 24)، بعدها مباشرةً جاء الفرج، وكان هذا هو السبيل لحل المشاكل بمساعدة الآخرين والدعاء لله؛ فقد حُلِّت جميع مشاكله.. وجد عقدَ عمل لمدة عشر سنوات، وجد السكن والزواج والمأكل والمشرب، وما أعظمَها من جوائز من فضل الله وكرمه لكل من أخذ بالأسباب وتوكل على رب الأسباب " "ثلاثة حق على الله أن يعينهم: المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد أن يستعفف، والمكاتب يريد الأداء" (أخرجه الدارقطني)، وقد ورد بالقرآن ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96)، وقال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)﴾ (نوح).
تصوروا أن الاستغفار أحد وسائل جلب المال؛ لقد قال لنا الصادق المصدوق: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا".
هيا يا أخي، يا من تعاني من البطالة.. نفِّذ هذه "الروشتة" النبوية والقرآنية الشريفة، وادع اللهَ وأنت موقن بالإجابة، وخذ بالأسباب، وتوكَّل على رب الأسباب، وكفى بالله وكيلاً.
أما بالنسبة للعلاج المجتمعي لهذه المشاكل الاقتصادية؛ فالقرآن يفرض زكاةً في مال القادرين اعتبرها الإسلام حقًّا للفقراء، وليس فقط واجبًا على الأغنياء، وأوضح الحديث القدسي أن المال مال الله، وأن الأغنياء وكلاء عن الله، والفقراء عيال الله "فإن بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي"، بل وذكر القرآن مرتين أن في أموالهم حقٌّ للسائل والمحروم، هذا غير الحق المعلوم الذي هو الزكاة، فهناك حقوق أخرى غير الزكاة؛ حيثما ووقتما وُجد القادرون وُوجد المحتاجون؛ لأنه- كما يقولون- "ما ضاع فقير إلا ببخل غني".
والتنبيه هنا على أن مسئولية الفقراء أيًّا كان دينهم، وأيًّا كانت أخلاقهم في رقبة الأغنياء، خاصةً الجيران الذين يعلمون أحوالهم، حتى ظنَّ الصحابة أن الله سيورث الجيران في التركة.
ونظرًا إلى ربط القرآن الكريم الإيمانَ بالله (العقيدة السامية) بهذا العطاء المجتمعي للمحتاجين ﴿إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ (الحاقة)، والعجيب أن التكليف بالحض وليس فقط الإنفاق؛ فهذا في حق القادر، ويضاف إليه الحض للقادر، وغير القادر أولى لتعويض عن عدم المقدرة، فيحض غيره من القادرين.
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)﴾ (الماعون)، وبعدها مباشرةً ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)﴾ (الماعون)، والماعون هو كل مساعدة لمحتاجٍ مع ربط ذلك بالصلاة بينهما ربطًا ربانيًّا محكمًا.
بل أعجب من ذلك نظرة الشريعة الإسلامية للكفَّارات؛ فإنها تجعل من أخطاء المسلمين في المجتمع وسيلةً لسد حاجات المحتاجين عن طريق الكفَّارات ﴿لا يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ (المائدة: من الآية 89)، وبعد ذلك إذا لم يجد ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 89)؛ فصيام ثلاث أيام في حالة عدم القدرة على إطعام عشرة مساكين أو تحرير رقبة، على عكس ما يفهم ويفعل غالبية المسلمين بالبدء بالصيام في كفارة الأيمان.
ومثل ذلك في بقية الكفَّارات؛ من إطعام ستين مسكينًا، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وكل ذلك لمصلحة الفقراء والمحتاجين والعبيد؛ سدًّا لحاجات المجتمع من بند كفارات المعاصي، وهي كثيرة:
أما ختام الآية فهو تقديم ذلك كله لله وليس للفقير؛ إعفاءً له من الحرج إذا ما حدث مَنٌّ أو أذى؛ لأن ذلك يحبط العمل ويمحق الأجر "ولو أطعمته لوجدت ذلك عندي".
فهيا أيها الفقراء والمحتاجون.. طبِّقوا ما عليكم من شرع الله، والزموا الاستغفار، وقوموا بسد حاجات الآخرين فيما تستطيعون، يكن الله في حاجاتكم، والتمسوا أسباب الرزق وهي كثيرة.
وأنتم أيها القادرون، ولا أقول الأغنياء والموسرين والمترفين.. أدوا حقَّ الفقراء والمساكين والجيران من مسلمين ومسيحيين، فلا تبيتوا ليلةً وواحد منهم بجواركم جوعان؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرَّأ من صنيعكم هذا، واعلموا أن أداء حقوقهم في أموالكم وزروعكم وتجاراتكم وأنعامكم هو باب البركة والنماء والأجر والثواب، وباب دخول الجنة وجوار النبي- صلى الله عليه وسلم- كفالة يتيم واحد.
تقبَّل الله منا ومنكم، وجعل بلدنا الحبيبة مصر سخاءً رخاءً بطاعتنا لله ولرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسائر بلاد المسلمين؛ تحقيقًا لقول الله عزَّ وجل ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾