تمر علينا هذه الأيام ذكرى مرور واحد وأربعين عامًا على هزيمة 67، وهي- لا شك- ذكرى أليمة؛ تستدعي في نفوس الكثير منا ذكريات الألم والدهشة في آنٍ واحد.
الألم لِمَا حدث في هذه الحرب والخسائر الفادحة فيها، والدهشة لسرعة بداية ونهاية الحرب وعدم وجود مقاومةٍ تذكر، وكمِّ الغنائم التي حصلت عليها "إسرائيل"؛ إذ إنها استولت على أراضٍ من ثلاث دول عربية تُعادل مساحتها أكثر من أربع مرات كما سنوضح لاحقًا. ويتملَّكني قدرٌ كبيرٌ من الغيظ عندما أجد من يصف هذه "المأساة" والمهزلة بـ"النكسة"؛ فشتان بين اللفظين؛ فالنكسة توضح أن هناك أمورًا تسير بصورة طبيعية ثم حدث لها انتكاسة أو نكسة، وهذا على غير الحقيقة؛ فلقد كانت الأمور تسير في هذه الفترة- خصوصًا قبل الحرب- بصورةٍ تؤدي إلى الهاوية؛ فعن أية نكسة يتحدثون؟!!. بدايةً.. لا بد أن نعترف أن الشعب العربي عامةً والشعب المصري خاصةً مورست عليه أكبر عملية تضليل في التاريخ، قبل وبعد الهزيمة؛ فقبل الهزيمة كان الإعلام العربي، وخصوصًا المصري، يناضل بـ"الطنطنة" بالغناء الكاذب- كما ذكر الموسيقار الكبير حلمي بكر- ويَعِدُ الجماهير العربية بنصرٍ ساحقٍ على "إسرائيل" وإلقائها في البحر وتحرير فلسطين، وتم استغلال مشاعر الناس أسوأ استغلال في أغانٍ وطنيةٍ بالعشرات تتكلم عن البطولات والقوة والنصر القادم لا محالة. بينما كان الوضع العربي في حالةٍ يُرثَى لها نتيجة تراكم أحداث سابقة ومتلاحقة ومختلفة عليه؛ من انهيار مشروع الوحدة بين مصر وسوريا، واستنزاف الجيش المصري وميزانية مصر في حرب اليمن ودعم الثورة هناك، خلاف الفساد السياسي والاقتصادي الذي كانت تعيش فيه مصر خلال تلك الأيام. ويمكن لأي هاوٍ أو مطلَّعٍ أن يعرف بنفسه ماذا كان يحدث في مصر في تلك الأيام لو قرأ ملف التحقيقات في قضية انحراف جهاز المخابرات العامة المصري على الرابط: http://www.almaqreze.net/munawaat/artcl064.htmlوالذي يوضح انشغال قيادات كبيرة في النظام والجيش آنذاك في ملذاتها ومجونها بدعوى الحصول على معلومات تفيد الوطن- كم من جرائم ترتكب باسمك يا وطن وأنت بريء من هؤلاء!!- في عملية مخابراتية عُرفَت بالتحكم والسيطرة، وهذا يفسِّر لنا مفاجأة "إسرائيل" لمصر فجر 5 يونيو 67 دون وجود أي نشاط أو تنبيه مخابراتي حقيقي. على الجانب الداخلي تفرَّغ النظام المصري لضرب معارضيه والتنكيل بهم، خصوصًا الإسلاميين من الإخوان المسلمين، ومحاولة تقديم بديل أيديولوجي اشتراكي قومي بتنصيب مصر زعيمةً للأمة العربية. وللأسف، وعلى الرغم من تلقين مبادئ الميثاق ومشروع القومية العربية للأمة في مدارسها وشوارعها ومساجدها وكنائسها وفي كل شبر فيها، إلا أنه لم تنجح به خطط التنمية، ولم تتحقَّق أية بادرة لتقدُّم نهضوي عربي، ولم تتفجر طاقات الأمة بشكلٍ يتوافق مع عقيدتها وتراثها وثقافتها. وعندما نسترجع ذكريات الهزيمة، وإن كنت تريد الدقة فقل المأساة أو الفضيحة؛ لأن هناك- كما أسلفنا- من لم يكتفِ بخداعنا قبل الهزيمة وأثناءها، ولكن أراد استكمال الخداع بتسمية هذه المهزلة بالنكسة، وكأن الأمور كانت تسير بصورة طبيعية وعادية وأن ما حدث كان انتكاسة طارئة ومفاجئة بدون مقدمات!!. نجد أن الحرب استغرقت فعليًّا ثلاث ساعات وليس ست ساعات؛ خسرت فيها القوات المصرية أكثر من 10 آلاف جندي، وتم أسر أكثر من 5500 تم تصفية الآلاف منهم أحياءً، خلاف آلاف المفقودين، والتي لم تتوفَّر بيانات دقيقة عنهم، وكذلك آلاف الجرحى والمعاقين لتقليل حجم الفاجعة، ودُمِّر 80% من عتاد الجيش المصري؛ بينها 800 دبابة، و450 مدفعًا، و10 آلاف مركبة، و305 طائرات من أصل 350 طائرةً دُمِّر غالبيتها على الأرض وفي مطاراتها!!. وخسرت القوات الأردنية 6049 جنديًّا و792 جريحًا و150 دبابة، وخسرت القوات السورية 1000 قتيل و560 أسيرًا و60 طائرةً من أصل 120 طائرة و70 دبابة، كما استولى الصهاينة على 150 دبابة بحالتها!!. وبعد أن استعرضنا هذه الأرقام المؤلمة، نستعرض النتائج الأكثر إيلامًا، والتي نتجت عن هذه المأساة: 1- احتلال "إسرائيل" ما تبقَّى من فلسطين، أي الضفة الغربية 5878 كم مربعًا، وقطاع غزة 363 كم مربعًا، واحتلال سيناء 61198 كم مربعًا، والجولان السورية 1150 كم مربعًا، ليصبح إجمالي الأراضي التي سيطر عليها الكيان الصهيوني آنذاك 89359 كم مربعًا، لو وضعنا في الاعتبار أن إجمالي مساحة فلسطين 27009 كم مربعًا، كان يسيطر الكيان الصهيوني على 20768 حتى 4 يونيو، فإذا بمساحة هذا الكيان الوهمي تتضاعف أربع مرات مرة واحدة!!؛ مما دفع أحد المؤرخين الصهاينة إلى تقديم اقتراح إلى الكنيست بعمل تمثال للزعيم جمال عبد الناصر في أكبر ميادين تل أبيب؛ لأنه- من وجهة نظره- قدَّم أكبر خدمة إلى الدولة الصهيونية!!. 2- تشريد أكثر من 330 ألف فلسطيني. 3- سيطرة الكيان "الإسرائيلي" على منابع مياه الأردن، وفتح مضايق تيران وخليج العقبة للملاحة "الإسرائيلية". 4- فَرَضَ احتلال جديد للأراضي العربية واقعًا جديدًا جعل هدف العرب استرجاع الأراضي التي احتُلَّت في 67، وليس تحرير فلسطين التي احتُلَّت في 48. 5- فقدان الثقة في القيادات العربية، وانعدام التنسيق بينها. والآن، وبعد مرور أربعين عامًا على هذه المأساة.. دعونا نتساءل: من المسئول؟! هل نردد ما يتجه إليه الكثير، وآخرهم مراد غالب وزير الخارجية في هذه الحقبة، بأن المسئول الأول والأخير هو الرئيس جمال عبد الناصر لتصفية حساباته مع خصومه والتخلُّص من المشير عبد الحكيم عامر؟!.. أعتقد أنه من الظلم بمكان لو ردَّدنا هذا الكلام؛ فالرجل- وإن كان يتحمل جزءًا من هذه المأساة، وإن كان أمعن في التنكيل والظلم بالإسلاميين وبعض الوطنيين- لا يصح أن نحمِّله مأساةً بهذا الحجم وحده؛ فلقد كان الرجل نظيف اليد، وله دَورٌ في بناء صناعة وطنية خالصة، وعمل على توحيد الصف العربي، وإن كان بعض هذه التحركات كلَّفت الشعب المصري الكثير، خصوصًا ما حدث في حرب اليمن. ولأمانة القول، يجب أن نذكر أن عبد الناصر يرجع له فضل كبير في انتصار 73 عن طريق تحرُّكاته ودعمه الجيش وإعادة بنائه عقب الهزيمة، إلا أننا لا بد أن ننظر بصورةٍ أعمق إلى المشهد كله، وأعتقد وأزعم أن سبب الهزيمة هو انعدام الحريات وفساد كامل وعام لغالبية القيادات والمسئولين في هذه البلد التي نكبت بهم؛ فأصبحت مصر تدار بطريقة "الشللية" والمزاج، ولك أن تتخيَّل أن أكبر أربعة من قيادات هذا البلد تركوا زوجاتهم وتزوَّجوا براقصات وممثلات!!، خلاف السبب الجوهري، وهو محاولة انتزاع هوية هذا البلد وطبيعته الإسلامية لصالح المشروع القومي. وفي النهاية دعونا نجيب على سؤال مهم: مأساة 67 كانت هزيمة جيش أم نظام؟!. الجواب: هزيمة 67 كانت هزيمة نظام فاسد غير مسئول، وليست هزيمة جيش حقَّق بعد ذلك نصر أكتوبر العظيم. |