(1)
لا تزال أصداء الصدمة تتردد في العالم العربي منذ ألقى الرئيس بوش خطابه أمام الكنيست في مناسبة احتفال "إسرائيل" بالذكرى الستين لتأسيسها، لأنه أفرط في التعبير عن انبهاره وتعلقه بنموذج الدولة في "إسرائيل". و هو ما لم يتوقعه الذين راهنوا على الرجل وإدارته، وأحسنوا الظن بهما. ذلك أن الرئيس بوش لم يستطع أن يخفي مشاعره حين وقف أمام الكنيست، ففتح قلبه وصارح الجميع بالحقيقة التي التبس أمرها على كثيرين من العرب والفلسطينيين. فلم يتحدث فقط كواحد من غلاة الإنجيليين الذي يعتبرون أن إقامة "إسرائيل" جاءت تحقيقاً للوعد الذي منح لشعب الله المختار، ولكنه استخدم أيضاً لغة عتاة الصهاينة الذين يعتبرون الحاصل في فلسطين صراعاً بين الخير والشر (الذي يمثله العرب أجمعون بطبيعة الحال)، ثم مضى يكيل المديح لنموذج الدولة الإسرائيلية التي قال: إنها حاربت بشراسة من أجل العدالة والكرامة الإنسانية والحرية، حتى أصبحت بعد ستة عقود "نوراً للأمم"، وحين تحتفل بذكرى تأسيسها المائة والعشرين (بعد ستين عاماً أخرى) ستكون واحدة من أعظم الديمقراطيات كأرض آمنة ومزدهرة للشعب اليهودي..الخ.
(2)
الفرقعة التي أحدثها خطاب الرئيس بوش تمت وسط أجواء من الجدل المتسم بالتشاؤم بين المثقفين الإسرائيليين الذين أدركوا أن بلدهم بوضعه الراهن الذي أبهر الرئيس الأمريكي ليس مرشحاً للاستمرار. فابراهام بورج رئيس البرلمان الأسبق الذي اعتزل الحياة السياسية في عام 2004 وصف "إسرائيل" بأنها "دول فاشية واستعمارية تقودها زمرة لا أخلاقية من الفاسدين الخارجين على القانون". وقال كلامه هذا في حوار أجرته معه صحيفة يديعوت أحرنوت، عقب إصدار كتابه "الانتصار على هتلر"، الذي ذهب فيه إلى أن "إسرائيل" تسير على خطى هتلر، وأنها تنتظر المصير ذاته، مادامت متمسكة بالصهيونية، ومعتمدة على السيف والعنف في إخضاع الفلسطينيين وسحقهم.
كتاب بورج ليس وحيداً في بابه، ولكن عدداً آخر من الباحثين الإسرائيليين، من سلالة حركة «المؤرخين الجدد»، وجدوا أن مناسبة الذكرى الستين تهيئ ظرفاً مواتياً لفتح الملفات، والحديث بصراحة عن "اختراع" الشعب اليهودي من قلب الخرافات والأساطير التي حفلت بها التوراة. وهو ما خلص إليه شلومو ساند الأستاذ بجامعة تل أبيب في كتابه "كيف تم اختراع الشعب اليهودي - من التوراة إلى الصهيونية"، وما أيده كتاب "كشف الغطاء عن التوراة"، لمؤلفيه الأثريين إسرائيل فينكلشتاين وأشر وسيلبرمان. في ذات الوقت كشف باحثون آخرون عن حقيقة الجرائم البشعة التي ارتكبتها الجماعات الصهيونية المسلحة للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وطردهم، خصوصاً المذابح التي أدت إلى التطهير العرقي، والتي تكذب الادعاءات التي روجتها الأبواق الإسرائيلية بأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم أو غادروا بلادهم باختيارهم. وقد فضح هذه الجرائم إيلان بابي في كتابه "التطهير العرقي لفلسطين". الأمر الذي أحدث صدمة في المجتمع الإسرائيلي، اضطرته للاستقالة من منصبه كأستاذ بجامعة حيفا، والهرب إلى بريطانيا ليعمل في إحدى جامعاتها.
وجه "إسرائيل" القبيح وتاريخها الملطخ بالدم وبأشلاء الفلسطينيين الأبرياء، الذي لم يره الرئيس بوش، أبرزه أيضاً آفي شلايم الأستاذ بمعهد سان أنطوني في أوكسفورد، في كتابه (الجدار الحديدي – "إسرائيل" والعالم العربي)، الذي هدم فيه أسطورة الدولة اليهودية التي تدعي أنها محبة للسلام، ومحاطة بعالم عربي يريد القضاء عليها.
(3)
هذا الجدل احتل مكانة ملحوظة في الصحف العبرية، فالبروفيسور أمنون روبنشتاين الوزير الأسبق وأستاذ القانون بجامعة تل أبيب الذي تخصص في الكتابة عن مستقبل الدولة، نشرت له هآرتس حواراً 14/4 الماضي، قال فيه: إن "إسرائيل" لا يمكنها البقاء بسبب نوعين من التهديد، أحدهما خارجي يتمثل في فشلها في ردع العرب، والثاني داخلي يمثله انتشار الفساد وتآكل ما يسميه "منظومة القيم الصهيونية" التي قامت عليها الدولة. أضاف في هذا الصدد أنه على الرغم من انتصارات "إسرائيل" في حروبها الكبيرة مع الدول العربية، إلا أن هذه الانتصارات فشلت في اجتثاث الرغبة العربية في محاربة "إسرائيل"، وفي رأيه أن ما يجعل الأمور أكثر تعقيداً هو "أسلمة" الصراع، واتخاذه بعداً دينياً، الأمر الذي لا يزيد فقط رقعة العداء ل"إسرائيل"، بل يجعله أكثر تصميماً، واعتبر روبنشتاين أن "إسرائيل" قد تستيقظ في يوم ما وقد أحيطت بأنظمة حكم ذات توجه إسلامي، لا ترفض وجود "إسرائيل" فحسب، بل تتجند من أجل إزالتها.
في نفس الوقت، فإن روبنشتاين رصد مظاهر تحلل منظومة "القيم الصهيونية"، مثل ميل الشباب الإسرائيلي لعدم التضحية من أجل الدولة ويعكسه تراجع الحماس في صفوفهم للانخراط في سلك الجندية، وهي نقطة أيده فيها أيرز ايشل مدير مدرسة "إعداد القادة" في تل أبيب، الذي قال في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" (4/3): إن أحد مصادر هدم منظومة القيم هذه، تتمثل في حقيقة أن قادة الدولة لم يعودوا مثالاً يحتذي به الشباب الإسرائيلي. إذ في الحين الذي يصرخ فيه قادة الدولة مهددين بشن مزيد من الحروب، فإنهم يستثنون أبناءهم من تحمل عبء هذه الحروب، ودلل على ذلك بأن ابني رئيس الوزراء الحالي إيهود أولمرت تهربا من الخدمة العسكرية بالسفر للخارج.
أيضاً من رأي الجنرال شلومو جازيت الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية "أمان" أن رفض "إسرائيل" التجاوب مع الرغبة العربية لحل الصراع يحمل في طياته دمار "إسرائيل"، وشن جازيت في مقال نشرته "معاريف" بتاريخ 4/9 انتقاداً حاداً على المستشرق الأمريكي برنارد لويس الذي دعا "إسرائيل" لعدم التفاوض مع العرب، معتبراً أن تخليد الوضع القائم هو الذي سيؤدي إلى تصفية "إسرائيل"، ما لم توافق حتى على هدنة طويلة المدى، تتنازل مقابلها عن حدود عام 1967.
ناحوم برنيع كبير المعلقين في صحيفة "يديعوت أحرنوت"، أوسع الصحف الإسرائيلية انتشاراً، الذي توقع فشل "إسرائيل" في حرب لبنان الثانية من أول يوم فيها، قال: إنه على رغم أن "إسرائيل" اليوم قوية من ناحية عسكرية وذات منعة اقتصادية، إلا أن الناس فيها يفقدون الثقة بمستقبلها وبقدرتها على البقاء، وروى في مقال نشره بتاريخ 19/4 حادثة طريفة وقعت مع الكاتب اليهودي الأمريكي جوردس، فقال: إنه ذهب إلى طبيب للحصول على وصفة دواء طلب أخذها قبل السفر بالجو، فسأله الطبيب: "بماذا تعمل؟". فرد جوردس: أنا كاتب. عندئذ سأله: ماذا تكتب؟. قال: حول مستقبل "إسرائيل". فضحك الطبيب، وقال: آه أفهم الآن، أنت تكتب قصصاً قصيرة!. وعلق برنيع على تلك الإجابة قائلاً: إنها تعكس المزاج العام في "إسرائيل"، وهو مزاج الشعور بنهاية الزمان، مع أنه لا يتحدث عنه أحد، لكن الجميع يشعرون به، إنه نوع من اليأس لا ينبع من الحرب التي كانت أو من الحرب التي قد تأتي، بل من مصادر أعمق، على حد تعبيره. وذكر أن مظاهر المنعة العسكرية والاقتصادية التي تتمتع بها "إسرائيل" مضللة. مشيراً إلى أنه على الرغم من أن "إسرائيل" ذات اقتصاد مستقر، وأسعار العقارات فيها تبلغ عنان السماء، وجيشها قوي، وجامعاتها ذات نوعية عالية، ومع ذلك فهي تعجز عن توفير الأمن لليهود الذين يعيشون فيها، وهي لا تعطيهم الحياة الطبيعية. وذكر برنيع أن "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة في العالم التي مجرد وجودها لا يزال مثيراً للجدل، في حين لا يشك أحد في العالم في حق الفلسطينيين في دولة.
(4)
لا يكتفي المفكرون والكتاب الصهاينة بالحديث عن تنبؤاتهم بالمستقبل المظلم ل"إسرائيل"، بل يعددون المظاهر التي تدعم هذه التنبؤات. إفراهام تيروش سكرتير ثاني حكومة شكلها مناحيم بيجن يرى في مقال نشرته معاريف بتاريخ 28/2 أن أوضح مظهر من مظاهر انهيار الفكرة الصهيونية هو قرار الوكالة اليهودية بالتوقف عن محاولة إقناع اليهود في أرجاء العالم بالهجرة إلى "إسرائيل"، معتبراً أن هذا يدلل على فشل الحركة الصهيونية في المحافظة على قوة الدفع الخاصة بأفكارها. ويؤكد أنه بالنسبة لليهود في أرجاء العالم، فإنهم باتوا يرون أن مخاطر العيش في "إسرائيل" أكبر من مخاطر العناصر اللاسامية في الشتات. ويشير تيروش إلى مظاهر انفضاض اليهود عن "إسرائيل"، مستنداً إلى نتائج دراسة أجريت في أوساط اليهود الأمريكيين دللت على أن 70% منهم لم يزورا "إسرائيل"، ولا يعتزمون زيارتها؛ و50% من يهود الولايات المتحدة متزوجون زواجاً مختلطاً؛ و50% من الشباب اليهود هناك لا يهمهم إذا اختفت "إسرائيل" من الوجود.
رئيس الكنيست السابق روفي ريفلين، القيادي البارز في حزب الليكود قدم مثالاً آخر على تغلغل اليأس في نفوس الإسرائيليين من مستقبل كيانهم، يعبر عنه سعي أعداد متزايدة من الإسرائيليين للحصول على جوازات سفر أوروبية لاستخدامها في الفرار من الدولة عند الحاجة، فيذكر في مقال نشرته صحيفة هآرتس (14/4) أن هذا السلوك لم يكن ليصدر عن هؤلاء الإسرائيليين لولا الشعور المتأصل في نفوسهم بأن الدولة في طريقها للتفكك والزوال، ويجزم بأن ذلك سيؤدي إلى ظهور تباينات فكرية واجتماعية وسياسية بين الإسرائيليين الذين لا يمكنهم الحصول على جوازات سفر أجنبية، ولا يعرفون أن لهم ملاذاً آخر، وبين أولئك الذين يعتقدون أن لديهم خيارات أخرى. مؤكداً أن هذه الظاهرة ستكون القوة التي ستنتج مظهراً آخر من مظاهر الانقسام في المجتمع.
وهناك من يرى أن عزوف اليهود عن الهجرة ل"إسرائيل" يرجع لكفرهم بالأساطير التي تأسست عليها "إسرائيل"، وفي مقال نشرته صحيفة "هآرتس" "بتاريخ 22/3" قال يولي جولدشتاين من قادة الجالية اليهودية في كندا: إن "الأساطير" التي كانت "إسرائيل" تحاول إقناع يهود العالم بها، لم تعد تنطلي على أحد سيما تصوير "إسرائيل" وكأنها "الحصن الأخير في مواجهة الذين يكنون العداء لليهود". وأشار إلى حقيقة كون 85% من اليهود في مدينة "مونتريال" التي تضم أكبر تجمع يهودي في كندا قد هاجروا أصلاً من "إسرائيل" التي بذلت جهداً كبيراً لإخراجهم من "الاتحاد السوفيتي"، لكنهم بعد أن عاشوا فيها قرروا تركها والتوجه لكندا، ثم تساءل: "هل هناك سبب للاعتقاد بأنهم سيفكرون الآن بالعودة إليها".
أيا كانت الشواهد الدالة على ما ينتظر "إسرائيل" في المستقبل، فإننا لا ينبغي أن نراهن على ذلك، فنبقى على أوضاعنا كما هي انتظاراً لما تأتي به الأيام، لأن تجميد الأوضاع العربية على ضعفها هو الذي قد يطيل من عمر "إسرائيل"، في حين إن الأخذ بأسباب القوة والمنعة وحده هو الذي يفقد "إسرائيل" أملها في بسط هيمنتها على العالم العربي، ومن ثم يعجل بهزيمتها سواء عاشت أو بادت.